فصل: تفسير الآيات (100- 104):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (96- 99):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)}
يقول الحق جل جلاله: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا}؛ بمعجزاتنا الدالة على صدقه، {وسلطان مبين}؛ وتسلط ظاهر على فرعون، أو برهان بيِّن على نبوته. قال البيضاوي: والفرق بينهما: أن الآية تعم الأمارة والدليل القاطع، والسلطان يخص بالقاطع، والمبين يخص بما فيه جلاء. اهـ. أرسلناه {إلى فرعون وملئه}؛ جماعته، {فاتبعوا أمرَ فرعون} أي: اتبعوا أمره بالكفر بموسى، أو: فما اتبعوا موسى الهادي إلى الحق، المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة، واتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلالة والطغيان، الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل؛ لفرط جهالتهم، وعدم استبصارهم، {وما أمرُ فرعون برشيد} أي: ليس أمره برشد وصواب، وإنما هو غي وضلال.
{يَقْدُمُ قومَه يوم القيامة} إلى النار، كما يتقدم في الدنيا إلى الضلال، {فأوردهم}: أدخلهم {النار} ذكره بلفظ الماضي؛ مبالغة في تحققه، ونزّل النار لهم منزلة الماء، فسمى إتيانها مورداً ثم قال: {وبئس الورد المورود} أي: بئس المَوْرد الذي وردوه، فإنَّ المورد إنما يراد لتبريد الأكباد، وتسكين العطش، والنار بضد ذلك. والآية كالدليل على قوله: {وما أمر فرعون برشيد}؛ فإنَّ من هذا عاقبته لم يكن في أمره رشد، أو تفسير له، على أن المراد بالرشيد: ما يكون مأمون العاقبة حميدها. قاله البيضاوي. {وأتبعوا في هذه لعنةً ويومَ القيامة} أي: تتبعهم اللعنة في الدارين {بئس الرفدُ المرفود}: بئس العون المعان، أو العطاء المعطى. فالرفد: العطاء، والإرفاد: المعونة، ومنه: رفادة قريش، أي: معونتهم للفقراء في الحج بالطعام. والمخصوص بالذم محذوف، أي: رفدهم، وهو اللعنة في الدارين.
الإشارة: إذا أردتَ أن تعرف قدر الرجل في مرتبة الخصوصية؛ فاسأل عن إمامه الذي يقتدى به، فإن كان من أهل الخصوصية فصاحبه من الخصوص، إن دامت صحبته معه، وإن كان من العموم فصاحبه من العموم. والمراد بالخصوصية: تحقيق مقام الفناء، ودخول بلاد المعاني. فكل من لم يحصل مقام الفناء، ولم يشهد إلا المحسوسات فهو من العوام، ولو بلغ من العلم والعمل ما بلغ، ولو رأى من الكرامات أمثال الجبال. فمن صحب مثل هذا الذي لم يفن عن نفسه، ولم يخرج عن دائرة حسه، لم يخرج من العمومية؛ لأن نفسه فرعونية. قال تعالى: {وما أمر فرعون برشيد}، وفي الخبر: «المَرْءُ على دين خليله» وقال الشاعر:
عن المرءِ لا تسأل وسَلْ عن قرينه ** فكلُّ قرينٍ بالمُقارَنِ يَقْتَدي

والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (100- 104):

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)}
قلت: {ذلك}: مبتدأ. و{من أنباء}: خبر، و{نقصه}: خبر ثان. وجملة: {منها قائم وحصيد}: استئنافية لا حالية؛ لعدم الرابط.
يقول الحق جل جلاله: {ذلك} النبأ الذي أخبرناك به في هذه السورة، هو {من أنباء القرى} الماضية المهلَكة، {نقصه عليك}، ونخبرك به؛ تهديداً لأمتك وتسلية لك. {منها} ما هو {قائم} البناء باقي الأثر، {و} منها {حصيد} أي: محصود عافي الأثر، كالزرع المحصود. أو: منها ما هو ساكن بقوم آخرين، قائم العمارة بغير من هلك، ومنها ما هو دارس عفى أثره، واندرست أطلالُه.
قال تعالى: {وما ظلمناهم} بإهلاكنا إياهم، {ولكن ظلموا أنفسهم} بأن عرضوها له؛ بارتكابهم ما يوجب هلاكهم، فعبدوا معي غيري، {فما أغنت عنهم}: ما نفعتهم، ولا قدرت أن تدفع عنهم العذاب، {آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء} من ذلك العذاب، {لما جاء أمر ربك}؛ حين جاءهم عذابه {وكذلك أخذُ ربك} أي: مثل ذلك الأخذ الوبيل أخذ ربك {إذا أَخَذَ القرى وهي ظالمةٌ} فلا يمهلها، وقد يمهلها ثم يأخذها. فكل ظالم معرض لذلك. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ ليُمْلِي للظَّالِمِ، حَتى إِذا أَخَذَهُ لَمْ يُفلِتْهُ» ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك...} الآية. فالآية تعم قرى المؤمنين؛ حيث عبَّر بظالمة دون كافرة. قاله ابن عطية. {إن أخذه أليم شديد}؛ وجيع عظيم، غير مرجو الخلاص منه، وهو مبالغة في التهديد والتحذير.
{إن في ذلك} الذي نسرده عليك من قصص الأمم الدارسة، {لآية}؛ لعبرة {لمن خاف عذابَ الآخرة} فيعتبر به ويتعظ؛ لعلمه بأن ما خاق بهم أنموذج مما أعد الله للمجرمين في الآخرة. وأما من أنكر الآخرة فلا ينفعه هذا الوعظ والتذكير؛ لفساد قلبه، وموت روحه.
{ذلك} أي: يوم القيامة الذي وقع التخويف به، {يوم مجموعٌ له الناسُ}: محشورون إليه أينما كانوا. وعبَّر باسم المفعول دون الفعل؛ للدلالة على الثبوت والاستقرار، ليكون أبلغ؛ لأن {مجموع} أبلغ من يجمع. {وذلك يوم مشهود} أي: تشهده أهل السماوات وأهل الأرض؛ لفصل القضاء، ويحضره الأولون والآخرون، لاقتضاء الثواب والعقاب. فاليوم مشهود فيه، فحذف الظرف اتساعاً.. {وما نُؤخره إلا لأَجلٍ معدود} أي: إلا لانتهاء مدة معدودة في علم الله، لا يتقدم ولا يتأخر عنها، قد اختص الله تعالى به. والله تعالى أعلم.
الإشارة: التفكر والاعتبار من أفضل عبادة الأبرار؛ لأنه يزهد في الدنيا الفانية، ويشوق إلى دار الباقية، ويرقق القلب، ويستدعي مخافة الرب، فلينظر الإنسان بعين الاعتبار في الأمم الخالية، والقرون الماضية، والأماكن الدارسة؛ كيف رحل أهلها عن الدنيا أحوج ما كانوا إليها، وتركوها أحب ما كانت إليهم؟ وفي بعض الخطب الوعظية: أين الفراعين المتكبرة، وأين جنودها المعسكرات؟ أين الأكاسير المنكسرة؟ وأين كنوزها المقنطرات؟ أين ملكوك قيصر والروم؟ وأين قصورها المشيدات؟ أين ملوك عدن؟ أهل الملابس والحيجان؟ وأين ملوك اليمن، أهل العمائم والتيجان؟ قد دارت عليهم والله الأقدار الدائرات، وجرت عليهم برياحها العاصفات، وأسكنتهم تحت أطباق الرجام المنكرات، وصيرت أجسامهم طعمة للديدان والحشرات، وأيمت منهم الزوجات، وأيتمت منهم البنين والبنات. أفضوا إلى ما قدموا، وانقادوا قهراً إلى القضاء وسلموا. فلا ما كانوا أملوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم من العمل الصالح رجعوا. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (105- 108):

{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)}
قلت: {يوم يأتي}: العامل في الظرف: {لا تكلم}، أو: اذكر، مضمر. والضمير في {يأتي}: يعود على اليوم. وقال الزمخشري: يعود على الله؛ لعود الضمير عليه في قوله: {إلا بإذنه}، وضمير منهم على أهل الموقف المفهوم من قوله: {لا تكلم نفس}.
يقول الحق جل جلاله: {يوم يأتي} ذلك اليوم المشهود، وهو: يوم الجزاء {لا تكلم}؛ لا تتكلم {نفس} بما ينفع وينجي في جواب أو شفاعة {إلا بإذنه} تعالى، وهذا كقوله: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحما} [النبأ: 38]، وهذا موقف، وقوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35 38]، في موقف آخر. والمأذون فيه هي الجوابات الحقية، أو الشفاعات المرضية، والممنوع منه هي الأعذار الباطلة.
ثم قسّم أهل الموقف، فقال: {فمنهم شقي} وجبت له النار بمقتضى الوعيد؛ لكفره وعصيانه. {و} منهم {سعيد} وجبت له الجنة بمقتضى الوعد؛ لإيمانه وطاعته. {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق}، الزفير: إخراج النفس، والشهيق: رده. ويستعملان في أول النهيق وآخره. أو الزفير: صوت المحزون، والشهيق: صوت الباكي. أو الزفير من الحلق، والشهيق من الصدر. والمراد بهما: الدلالة على شدة الكرب والغم، وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه، وانحصرت فيه روحه، أو تشبيه حالهم بأصوات الحمير. قاله البيضاوي.
{خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} أي سماوات النار وأرضها. وهي دائمة أبداً، ويدل عليه قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48]، أو يكون عبارة عن التأبيد: كقوله العرب: ما لاح كوكب وما ناح الحمام، وشبه ذلك بما يقصد به الدوام، وهذا أصح.
وقوله: {إلا ما شاء ربك}، للناس هنا كلام واختلاف. وأحسن ما قيل فيه؛ ما ذكره البقاعي، قال: والذي ظهر لي والله أعلم أنه لما تكرر الجزم بالخلود في الدارين، وأن الشرك لا يغفر، والإيمان موجب للجنة، فكان ربما يُظن أنه لا يمكن غير ذلك، كما ظنه المعتزلة، لاسيما إذا تأمل القطع في مثل قوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، مع تقييد غيره بالمشيئة في قوله: {وَيَغفِر مَا دُونَ ذََلِكَ لِمَن يَشَآءُ} جاء هذا الاستثناء معلماً أن الأمر فيه إلى الله كغيره من الأمور، له أن يفعل في كلها ما يشاء، وإن جُزم القوم فيه، لكنه لا يقع غير ما أخبره به، وهذا كما تقول: اسكن هذه الدار عمرك ألا ما شاء زيد، وقد لا يشاء زيد شيئاً. فكما أن التعليق بدوام السماوات والأرض غير مراد الظاهر، كذلك الاستثناء فلا يشاء الله قطع الخلود لأحد من الفريقين، وسوقه هكذا أدل على القدرة وأعظم في تقليد المنة. اهـ.
وقال الجلال السيوطي، في البدور السافرة في أمور الآخرة: اعلم أن للعلماء في هذا الاستثناء أقوالاً، أشبهها بالصواب: أنه ليس باستثناء، وإنما {إلا}. بمعنى سوى كما تقول: لي عليك ألف درهم إلا ألفان، التي لي عليك، أي: سوى الألفين، والمعنى: خالدين فيها قدر مدة السماوات والأرض في الدنيا سوى ما شاء ربك من الزيادة عليها، فلا منتهى له. وذلك عبارة عن الخلود. والنكتة في تقديم ذكر مدة السماوات والأرض: التقريب إلى الأذهان بذكر المعهود أولاً. ثم أردفه بما لا إحاطة للدهر به، والجري على عادة العرب في قولهم في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده: لا آتيك ما دامت السماوات والأرض. اهـ. ومثله لابن عطية. قال: ويؤيده هذا التأويل قوله بعدُ: {عطاء غير مَجذُوذ} أي: غير مقطوع، وهذا قول الفراء، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع بسوى، وسيبويه بلكن. اهـ. وقال الورتجبي: قال ابن عطاء: {إلا ما شاء ربك} من الزوائد لأهل الجنة من الثواب. ومن الزوائد لأهل النار من العقاب. اهـ. {إن ربك فعال لما يريد} من غير حجر ولا اعتراض.
{وأما الذين سُعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} كما تقدم. {عطاء غير مَجْذُوذٍ}: غير مقطوع، وهو تصريح بأن الثواب غير مقطوع، وتنبيه على أن المراد من الاستثناء تعليم الأدب فقط. والله تعالى أعلم.
الإشارة: السعادة على قسمين: سعادة الظاهر، وسعادة الباطن. والشقاو ة كذلك. أما سعادة الظاهر ففي الدنيا بالراحة من التعب، وفي الآخرة بالنجاة من العذاب. وأما سعادة الباطن ففي الدنيا براحة القلب من كد الهموم والأحزان، واليقين والاطمئنان، في حضرة الشهود والعيان، وفي الآخرة بدوام النظر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وشقاوة الظاهر باتصال الكد والتعب. وشقاوة الباطن بالبعد عن الله، وافتراقه عن حضرة مولاه.
قال في نوادر الأصول: الشقاوة: فراق العبد من الله، والسعادة اندساسه إليه. اهـ. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه في حزبه الكبير: والسعيد من أغنيته عن السؤال منك، والشقي حقاً من حرمته مع كثرة السؤال لك.
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته عليه: ومدار السعادة: الجمع على الله والغيبة عمن سواه، فيفنى العبد عن وجوده، ويبقى بربه، فيشغله استغراقه في شهوده عن الشعور بغيريته، وينمحي عنه أمل شيء يرجى، أو خوف شيء يُتقى، فليس له عن سوى الحق إخبار، ولا مع غيره قرار. وعندما حل بهذه الحضرة، وظفر بقُرة عينه، وحياة روحه، وسر حياته، لا يتصور منه سُول، ولا فوات مأمول، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك»، «اشْتَاقَتْ الجَنَّةُ إِلى عَليِّ وعَمَّارٍ وسَلمَانَ وصهيب وبلال» كما في الأثر.
نعم، إن رد إليه تصور منه الدعاء على وجه العبودية، وأداء الأمر وإظهار الفاقة، لا على وجه الاقتضاء والسببية. «جل حكم الأزل أن ينضاف إلى الأسباب والعلل».
ثم قال: وعلى ما تقرر في السعادة، فالشقاوة: احتجاب العبد بوجوده عن شهوده، فلا يَنفَكُّ عن أمل، ولا عن خوف عطب. فيستحثه الطبع للسؤال جلباً أو دفعاً. وهو في ذلك في شقاء، سواء أعطى أو منع؛ لفقده قرةَ عينه وراحة قلبه، لأسْره في طبعه، ومكابدة أمره وهلعه. كما قال تعالى: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً إِلاَّ المصلين} [المعارج: 19 22]، فلم يستثن من كد الطبع ومكابدته غير أهل الصلاة الدائمة، وهم أهل الوجهة لله، المواجَهين بعناية الله، المتحققين بذكر الله. وقد وَرَدَ: «هُمُ القَوْم لاَ يَشْفَى جَلِيسُهُم» فضلاً عنهم. وعلى الجملة: فالمراد بالسعادة والشقاوة في كلامه أي الشاذلي الباطنة لا الظاهرة، والقلبية لا القالبية. وإن كان قد تطلق على ذلك أيضاً، لكن لكل مقام مقال. وقد قال تعالى: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123].
قال في نوادر الأصول: تَابعُ القرآن قد أجير من شقاء العيش في الدنيا؛ لراحة قلبه من غموم الدنيا وظلماتها، وسَيره في الأمور بقلبه في راحة؛ لأنه منشرحُ الصدر واسعه، وبدنه في راحة؛ لأنه ميسر عليه أمور الدنيا، تُهيأ له في يسر؛ لضمان الله، واكتنافه له. وكذا يجار في الآخرة من شقاء العيش في سجون النيران. أعاذنا الله من ذلك. اهـ.

.تفسير الآية رقم (109):

{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)}
يقول الحق جل جلاله: {فلا تك} يا محمد {في مرية}. في شك {مما يعبد هؤلاء} المشركون، أي: لا تشك في فساد ما هم فيه، بعد ما أنزل عليك من حال الناس، وتبيين ما لأهل السعادة الموحدين، مما لأهل الشقاء المشركين، {ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبلُ}، وهو تعليل للنهي، أي: ما يعبدون عبادةً إلا كعبادة آبائهم. أو ما يعبدون شيئاً إلا مثل ما عبد آباؤهم من الأوثان؛ تقليداً من غير برهان، وقد بلغك ما لحق آبائهم من العذاب فسيلحقهم مثل ذلك؛ لاتفاقهم في سبب الهلاك. {وإنا لموفوهم نصيبهم} حظهم من العذاب، كآبائهم، {غير منقوص} من نصيبهم شيء. فالتوفية لا تقتضي التمام، تقول: وفيته حقه، وتريد وفاء بعضه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: فلا تكن أيها العارف في مرية مما يعبد هؤلاء العوام، من جمع الدنيا، والتكاثر منها، وصرف الهمة إلى تحصيلها، واستعمال الفكر في أسباب جمعها، وانهماك النفس في حظوظها وشهواتها. ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل، ممن سلك هذا المسلك الذميم، وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص بانحطاط درجتهم عن درجة المقربين. قال بعض الحكماء: دار الدنيا كأحلام المنام، وسرورها كظل الغمام، وأحدثها كصوائب السهام، وشهواتها: كمشرب الشمام، وفتنتها كأمواج الطوام. اهـ.